تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 250 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 250

250 : تفسير الصفحة رقم 250 من القرآن الكريم

** وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ
يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم يقولون كفراً وعناداً: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون, كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن يزيح عنهم الجبال, ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً, قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون} الاَية, قال الله تعالى: {إنما أنت منذر} أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها, {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقوله: {ولكل قوم هاد} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي لكل قوم داع. وقال العوفي عن ابن عباس في الاَية: يقول الله تعالى: أنت يا محمد منذر, وأنا هادي كل قوم, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. وعن مجاهد {ولكل قوم هاد} أي نبي, كقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}, وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو صالح ويحيى بن رافع {ولكل قوم هاد} أي قائد. وقال أبو العالية: الهادي القائد, والقائد الإمام, والإمام العمل. وعن عكرمة وأبي الضحى {لكل قوم هاد} قالا: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مالك: {ولكل قوم هاد} يدعوهم إلى الله عز وجل.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثني أحمد بن يحيى الصوفي, حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري, حدثنا معاذ بن مسلم, حدثنا الهروي عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: لما نزلت {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه على صدره وقال: «أنا المنذر, ولكل قوم هاد» وأومأ بيده إلى منكب علي, فقال «أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي» , وهذا الحديث فيه نكارة شديدة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير عن علي {ولكل قوم هاد} قال: الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك.

** اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَىَ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء, وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات, كما قال تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} أي ما حملت من ذكر أو أنثى, أو حسن أو قبيح, أو شقي أو سعيد, أو طويل العمر أو قصيره, كقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة} الاَية, وقال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث} أي خلقكم طوراً من بعد طور, كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خلق إحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه, وعمره, وعمله, وشقي أو سعيد». وفي الحديث الاَخر «فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى ؟ أي رب أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله, ويكتب الملك}.
وقوله {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس, لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله, ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله, ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله, ولا تدري نفس بأي أرض تموت, ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» وقال العوفي عن ابن عباس {وما تغيض الأرحام} يعني السقط,{وما تزداد} يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً, وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر, ومن تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل, ومنهن من تنقص, فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال: ما نقصت من تسعة وما زاد عليها, وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين, وولدتني وقد نبتت ثنيتي. وقال ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل, وقال مجاهد {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال: ما ترى من الدم في حملها, وما تزداد على تسعة أشهر, وبه قال عطية العوفي والحسن البصري وقتادة والضحاك, وقال مجاهد أيضاً: إذا رأت المرأة الدم دون التسعة, زاد على التسعة مثل أيام الحيض, وقاله عكرمة وسعيد بن جبير وابن زيد. وقال مجاهد أيضاً: {وما تغيض الأرحام} إراقة الدم حتى يخس الولد, {وما تزداد} إن لم تهرق المرأة, تم الولد وعظم. وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم, وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها, فمن ثم لا تحيض الحامل, فإذا وقع إلى الأرض, استهل, واستهلاله استنكاره لمكانه, فإذا قطعت سرته, حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم, ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله, فإذا هو بلغ قال: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق ؟ فيقول مكحول ياويلك: غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل صغير, حتى إذا اشتددت وعقلت قلت: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق, ثم قرأ مكحول {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} الاَية.
وقال قتادة: {وكل شيء عنده بمقدار} أي بأجل, حفظ أرزاق خلقه وآجالهم, وجعل لذلك أجلاً معلوماً. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه أن ابناً لها في الموت, وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ, وله ما أعطى, وكل شيء عنده بأجل مسمى, فمروها فلتصبر ولتحتسب» الحديث بتمامه. وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم, ولا يخفى عليه منه شيء {الكبير} الذي هو أكبر من كل شيء, {المتعال} أي على كل شيء {قد أحاط بكل شيء علم} وقهر كل شيء, فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً.

** سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ * لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه, وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به, فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء, كقوله: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}, وقال: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون}, قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات, والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا في جنب البيت, وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها, فأنزل الله {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} وقوله {ومن هو مستخف بالليل} أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل, {وسارب بالنهار} أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه, فإن كليهما في علم الله على السواء, كقوله تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم} الاَية.
وقوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}.
وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه, حرس بالليل وحرس بالنهار, يحفظونه من الأسواء والحادثات, كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر, ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال, صاحب اليمين يكتب الحسنات, وصاحب الشمال يكتب السيئات, وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه, واحد من ورائه وآخر من قدامه, فهو بين أربعة أملاك بالنهار, وأربعة أملاك بالليل, بدلاً حافظان وكاتبان, كما جاء في الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر, فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون». وفي الحديث الاَخر «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع, فاستحيوهم وأكرموهم».
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} والمعقبات من الله هي الملائكة, وقال عكرمة عن ابن عباس {يحفظونه من أمر الله} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاء قدر الله خلوا عنه, وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل, يحفظه فينومه ويقظته من الجن والإنس والهوام, فما منها شيء يأتيه يريده, إلا قال له الملك وراءك, إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا, له حرس من دونه حرس, وقال العوفي عن ابن عباس: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} يعني ولي الشيطان يكون عليه الحرس. وقال عكرمة في تفسيرها: هؤلاء الأمراء المواكب بين يديه ومن خلفه, وقال الضحاك في الاَية: هو السلطان المحروس من أمر الله, وهم أهل الشرك, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديثاً غريباً جداً, فقال حدثني المثنى, حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري, حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ فقال «ملك على يمينك على حسناتك, وهو أمير على الذي على الشمال, فإذا عملت حسنة كتبت عشراً, وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتبها ؟ قال: لا, لعله يستغفر الله ويتوب فيستأذنه ثلاث مرات, فإذا قال ثلاثاً, قال: اكتبها أراحنا الله منه فبئس القرين, ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا, يقول الله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وملكان من بين يديك ومن خلفك, يقول الله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} الاَية وملك قابض على ناصيتك, فإِذا تواضعت لله رفعك, وإذا تجبرت على الله قصمك, وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك, وملكان على عينيك, فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي, ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار, لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار, فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي, وإبليس بالنهار وولده بالليل».
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا سفيان, حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يارسول الله ؟ قال: «وإياي, ولكن الله أعانني عليه, فلا يأمرني إلا بخير», انفرد بإخراجه مسلم. وقوله: {يحفظونه من أمر الله} قيل: المراد حفظهم له من أمر الله, رواه علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس, وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال قتادة: {يحفظونه من أمر الله} قال: وفي بعض القراءات يحفظونه بأمر الله, وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن لاَدم كل سهل وكل حزن, لرأى كل شيء من ذلك شياطين, لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتخطفتم. وقال أبو أمامة: ما من آدمي ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له, وقال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال: احترس: فإن ناساً من مراد يريدون قتلك, فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر, فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه, إن الأجل جنة حصينة.
وقال بعضهم {يحفظونه من أمر الله} بأمر الله, كما جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله, أرأيت رقىَ نسترقي بها, هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال «هي من قدر الله». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن جهم, عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله, إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون, ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. وقد ورد هذا في حديث مرفوع, فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش: حدثنا الحسن بن علي, حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي, حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة قال: كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني, وإذا سألته عن الخبر أنبأني, وإنه حدثني عن ربه عز وجل قال: «قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي, ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي, إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي», وهذا غريب, وفي إسناده من لا أعرفه.

** هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ * وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق, وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب. وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق, فقال: البرق الماء. وقوله: {خوفاً وطمع} قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته, وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله, {وينشىء السحاب الثقال} أي ويخلقها منشأة جديدة, وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد: السحاب الثقال الذي فيه الماء, قال: {ويسبح الرعد بحمده} كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرني أبي قال: كنت جالساً إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد, فمر شيخ من بني غفار, فأرسل إليه حميد, فلما أقبل قال: ياابن أخي, وسع فيما بيني وبينك, فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه, فقال له حميد: ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال له الشيخ: سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق, ويضحك أحسن الضحك» والمراد ـ والله أعلم ـ أن نطقها الرعد وضحكها البرق. وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال: يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكاً, ولا آنس منه منطقاً, فضحكه البرق, ومنطقه الرعد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن مسلم قال: بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه: وجه إنسان, ووجه ثور, ووجه نسر, ووجه أسد, فإذا مصع بذنبه فذاك البرق. وقال الإمام أحمد, حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا الحجاج, حدثنا أبو مطر عن سالم, عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال «اللهم لا تقتلنا بغضبك, ولا تهلكنا بعذابك, وعافنا قبل ذلك», ورواه الترمذي والبخاري في كتاب الأدب, والنسائي في اليوم والليلة, والحاكم في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطاة, عن أبي مطر ولم يسم به. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبيه, عن رجل, عن أبي هريرة رفعه, أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده», وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من سبحت له, وكذا روي عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد, أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال الأوزاعي: كان ابن أبي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد: سبحان الله وبحمده, لم تصبه صاعقة, وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته, ويقول: إِن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض, رواه مالك في موطئه, والبخاري في كتاب الأدب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي, حدثنا صدقة بن موسى حدثنا محمد بن واسع عن شتير بن نهار, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال ربكم عز وجل: لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل, وأطلعت عليهم الشمس بالنهار, ولما أسمعتهم صوت الرعد». وقال الطبراني: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي, حدثنا أبو كامل الجحدري, حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر, حدثنا عبد الكريم, حدثنا عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكراً» وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء, ولهذا تكثر في آخر الزمان, كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا عمارة عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول: من صعق تلكم الغداة ؟ فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان».
وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق, حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني, حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب, فقال: «اِذهب فادعه لي». قال: فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: من رسول الله, وما الله, أمن ذهب هو, أم من فضة هو, أم من نحاس هو ؟ قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: يا رسول الله, قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, قال لي كذا وكذا, فقال لي: «ارجع إليه الثانية» فذهب فقال له مثلها, فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, فقال: «ارجع إليه فادعه» فرجع إليه الثالثة, قال: فأعاد عليه ذلك الكلام, فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عز وجل سحابة حيال رأسه, فرعدت فوقعت منها صاعقة, فذهب بقحف رأسه, فأنزل الله عز وجل {ويرسل الصواعق} الاَية, ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون, عن ديلم بن غزوان, عن ثابت, عن أنس فذكر نحوه, وقال: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا عفان, حدثنا أبان بن يزيد, حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى جبار يدعوه فقال: أرأيتم ربكم أذهب هو ؟ أم فضة هو ؟ أم لؤلؤ هو ؟ قال: فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل عليه صاعقة, فذهبت بقحف رأسه, ونزلت هذه الاَية. وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك, من أي شيء هو ؟ من نحاس هو, أم من لؤلؤ أو ياقوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الاَية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن, وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الاَية, وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة, لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر, فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله ـ: أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة» يعني الأنصار, ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه, والاَخر يستل سيفه ليقتله من ورائه, فحماه الله تعالى منهماوعصمه, فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام, فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته, وأما عامر بن الطفيل, فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة, فجعل يقول: يا آل عامر غدة كغدة البكر, وموت في بيت سلولية, حتى ماتا لعنهما الله, وأنزل الله في مثل ذلك {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله}, وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه:
أخشى على أربد الحتوف ولاأرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالــفارس يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعيد العطار, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثني عبد العزيز بن عمران, حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب, وعامر بن الطفيل بن مالك, قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه, فقال عامر بن الطفيل: يا محمد, ما تجعل لي إن أسلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم». قال عامر بن الطفيل: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك لك ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل» قال: أنا الاَن في أعنة خيل نجد, اجعل لي الوبر ولك المدر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا», فلما قفلا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمنعك الله», فلما خرج أربد وعامر, قال عامر: يا أربد, أنا أشغل عنك محمداً بالحديث فاضربه بالسيف, فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب, فنعطيهم الدية. قال أربد: أفعل, فأقبلا راجعين إليه, فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك, فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلسا إلى الجدار, ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه, وسل أربد السيف, فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف, فلم يستطع سل السيف, فأبطأ أربد على عامر بالضرب, فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع, فانصرف عنهما, فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا, فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير, فقالا: اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله, فقال عامر: من هذا يا سعد ؟ قال: هذا أسيد بن حضير الكتائب, فخرجا حتى إِذا كانا بالرقم, أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته, وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته, فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول, فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية, ترغب أن يموت في بيتها, ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعاً, فأنزل الله فيهما {الله يعلم ما تحمل كل أنثى ـ إلى قوله ـ وما لهم من دونه من وال} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر أربد وما قتله به, فقال {ويرسل الصواعق} الاَية.
وقوله {وهم يجادلون في ا لله} أي يشكون في عظمته, وأنه لا إله إلا هو, {وهو شديد المحال} قال ابن جرير: شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه, وعتا وتمادى في كفره, وهذه الاَية شبيهة بقوله: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}, وعن علي رضي الله عنه {وهو شديد المحال} أي شديد الأخذ, وقال مجاهد: شديد القوة.